تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

تعالى يترفع برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تسميته بالفقير ، وقال غيره : إنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : ولكن الفيء للفقراء.

وقيل تقديره : ولكن يكون للفقراء ، وقيل تقديره : أعجبوا للفقراء ، واقتصر على هذا التقدير الجلال المحلي. وإنما جعله الزمخشري بدلا من لذي القربى لأنه حنفي ، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيء ، ولذا قال البيضاوي : ومن أعطى أغنياء ذوي القربى ، أي : كالشافعي خصص الإبدال بما بعده ، أو الفيء بفيء بني النضير ا. ه. أو أنهم كانوا عند نزول الآية كذلك ، ثم خصص بالوصف بقوله تعالى : (الْمُهاجِرِينَ) وقيد ذلك بقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) لأنّ الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غيره مفارقة الوطن وقوله تعالى : (وَأَمْوالِهِمْ) إشارة إلى أنّ المال لما كان يستره الإنسان كان كأنه ظرف له

ولما كان طلب الدنيا من النقائص بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك ، وأنه لا يكون قادحا في الإخلاص فقال تعالى : (يَبْتَغُونَ) أي : أخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد ، وبين أنه لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء بقوله تعالى : (فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له ، لأنه المختص بجميع صفات الكمال فيغنيهم بفضله عمن سواه (وَرِضْواناً) بأن يوفقهم لما يرضيه عنهم ، ولا يجعل رغبتهم في العوض منه قادحا في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته وقرأ شعبة بضم الراء ، والباقون بكسرها (وَيَنْصُرُونَ) أي : على سبيل التجديد والاستمرار (اللهِ) أي : دين الملك الأعظم (وَرَسُولَهُ) الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة (هُمُ الصَّادِقُونَ) أي : العريقون في هذا الوصف ، لأنّ مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث نابذوا من عاداهما ، ووالوا أولياءهما وإن بعدت دارهم وشط مزارهم

ثم أتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣))

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) أي : جعلوا بغاية جهدهم (الدَّارَ) أي : الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة ، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم. وفي قوله تعالى : (وَالْإِيمانَ) أوجه :

٢٦١

أحدها : أنه ضمن تبوؤوا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه ؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

ثانيها : أنه منصوب بمقدر ، أي : واعتقدوا ، أو وألفوا ، أو وأحبوا ، أو وأخلصوا كقول القائل (١) :

علفتها تبنا وماء باردا

وقول الآخر (٢) :

ومتقلدا سيفا ورمحا

ثالثها : أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم ، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وفيه خلاف مشهور.

رابعها : أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه.

خامسها : أن يكون سمى المدينة به ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان ، قال هذين الوجهين الزمخشري ، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف ، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] أي : مأواه ، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف ، أي : المأوى له. وأما كونها عوضا عن المضاف إليه ، فقال ابن عادل : لا نعرف فيه خلافا.

سادسها : أنه منصوب على المفعول معه ، أي : مع الإيمان. قال وهب : سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة ، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : وهم الأنصار (يُحِبُّونَ) أي : على سبيل التجديد والاستمرار (مَنْ هاجَرَ) وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى : (إِلَيْهِمْ) لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه ، لأنه لو لا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه

__________________

(١) يروى الرجز بتمامه :

علفتها تبنا وماء باردا

حتى شتت همّالة عيناها

والرجز بلا نسبة في لسان العرب (زجج) ، (قلد) ، (علف) ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٨ ، ٧ / ٢٣٣ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٢٥٩ ، والإنصاف ٢ / ٦١٢ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٤٥ ، والخصائص ٢ / ٤٣١ ، والدرر ٦ / ٧٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٢٦ ، وشرح التصريح ١ / ٣٤٦ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٤٧ ، وشرح شذور الذهب ص ٣١٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٨ ، ٢ / ٩٢٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٠٥ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٣٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٠١ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٠ ، وتاج العروس (علف).

(٢) يروى البيت بلفظ :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا

والبيت من مجزوء الكامل ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٠٨ ، ٦ / ٢٣٨ ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٤ ، والإنصاف ٢ / ٦١٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٣١ ، ٣ / ١٤٢ ، ٩ / ١٤٢ ، والخصائص ٢ / ٤٣١ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٨٢ ، وشرح المفصل ٢ / ٥٠ ، ولسان العرب (رغب) ، (زجج) ، (مسح) ، (قلد) ، (جدع) ، (جمع) ، (هدى) والمقتضب ٢ / ٥١.

٢٦٢

(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) أي : التي هي مساكن قلوبهم فضلا عن أن تنطق ألسنتهم (حاجَةً) قال الحسن : حسدا وحزازة وغيظا (مِمَّا أُوتُوا) أي : آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة ، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية. فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين ، وفي أوتوا للمهاجرين.

وقيل : إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة ، تقول : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري. والضمير ان على ما تقدم ، وقال أبو البقاء : مس حاجة ، أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤا الدار والإيمان. قال القرطبي : كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموال بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم» فقال سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ : بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا ، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين ، أبا دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة (١).

ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) فيبذلون لغيرهم كائنا من كان ما في أيديهم ، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية ، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ) أي كونا هو في غاية المكنة (بِهِمْ) أي خاصة لا بالمؤثر (خَصاصَةٌ) أي : فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به.

روي عن أبي هريرة أن رجلا بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضا قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يضيف هذا الليلة رحمه‌الله فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال : لامرأته هل عندك شيء ؛ قالت : لا إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج» (٢) وذكر نحو الحديث الأول.

وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٧ / ٣٣٣ ، والقرطبي في تفسيره ١٨ / ١١.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٧٩٨ ، ومسلم في الأشربة حديث ٢٠٥٤ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣٠٤.

٢٦٣

أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عنده إلا قوته.

وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأس شاة ، فقال : إنّ أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم ، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية.

وذكر القرطبي عن أنس قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهودا فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت.

فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب : بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة : ١٧٧] فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي «أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل البيضة من الذهب ، فقال : هذه صدقة فرماه بها ، وقال : يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس» (١) والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال : والجود بالنفس أعلى غاية الجود ، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك» (٢) ، ووقى بيده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول : آه ، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه ، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجا ، فقال لي : يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم ، فقلت : إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاب بلخ فقلت : وما حد الزهد عندكم ، فقال : إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا.

وسئل ذو النون ما حد الزهد قال : ثلاث : تفريق المجموع ، وترك تطلب المفقود ، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا لصاحبه على نفسه (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي : يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها ، فلا يكون مانعا لما عنده حريصا على ما عند غيره حسدا. قال ابن عمر : الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» (٣).

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الزكاة حديث ١٦٧٣ ، والدارمي في الزكاة حديث ١٦٥٩.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٨١١ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٨١١.

(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٧٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠ ، ١٩١ ، ١٩٥ ، ٤٣١ ، ٣ / ٣٢٣.

٢٦٤

وقال القرطبي : الشح والبخل سواء ، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح : الشح البخل مع حرص ، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة ، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك ، وإن أمسك عن نفسه ، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه.

روى الأموي عن ابن مسعود : أنّ رجلا أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول : ومن يوق شح نفسه ، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئا ، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل ، ففرق بين الشح والبخل. وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح بما في أيدي الناس ، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع ، وقال بعضهم : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال ابن جبير : الشح منع الزكاة ، وادخار الحرام وقال ابن عيينة : الشح الظلم. وقال الليث : ترك الفرائض ، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان ، فذلك الشحيح وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا نهاه الله تعالى عنه ، ولم يمنع شيئا أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه.

وعن أنس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «برىء من الشح من أدى الزكاة ، وأقرى الضيف ، وأعطى في النائبة» (١) وعنه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها» (٢) وقال ابن الهياج الأسدي : رأيت رجلا في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك ، فقلت له : فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قال القرطبي : ونزل على هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارهم» (٣) وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ، ودخان جهنم في جوف عبد أبدا» (٤) وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا : الفقر ، فقال : الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا (فَأُولئِكَ) أي : العالو المنزلة (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الكاملون في الفوز بكل مراد ، قال القشيري : ومجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر من أسرته الأخطار

ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ) أي : من أي طائفة كانوا (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد المهاجرين والأنصار ، وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح ، وبعد إيمان الأنصار الذين

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٩٦ ، ١٩٧ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ٣٠ ، ٩٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥٧٨٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ٤ / ٢٤١.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسير ١٨ / ٣٠.

(٣) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.

(٤) أخرجه الترمذي حديث ١٦٣٣ ، ٢٣١١ ، والنسائي في الجهاد حديث ٣١١٠ ، وابن ماجه في الجهاد حديث ٢٧٧٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٦.

٢٦٥

أسلموا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة (يَقُولُونَ) على سبيل التجديد والاستمرار تصديقا لإيمانهم بدعائهم (رَبَّنَا) أي : أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا (اغْفِرْ لَنا) أي : أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها (وَلِإِخْوانِنَا) أي : في الدين فإنهم أعظم أخوة ، وبينوا العلة بقولهم (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل : المهاجرين ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان ، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم : كن مهاجرا ، فإن قلت : لا أجد فكن أنصاريا ، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى.

وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تقول في عثمان فقال له يا أخي أنت من قوم قال الله تعالى فيهم : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله تعالى فيهم : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) الآية ، قال : لا ، قال : فو الله إن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجنّ من الإسلام ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية وروي أنّ نفرا من أهل العراق جاؤوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ، فقالوا : لا فقال : أمن الذين تبؤوا الدار والإيمان ، قالوا : لا قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) قوموا فعل الله بكم وفعل.

تنبيه : هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين ، لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحدا منهم ، أو اعتقد فيهم شرا أنه لا حق له في الفيء.

قال مالك : من كان يبغض أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كان في قلبه لهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية ، وهي عامة في جميع التابعين الآتين بعدهم إلى يوم القيامة. يروى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى المقبرة فقال : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت لو رأيت إخواننا ، فقالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض» (١) فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن إخوانه كان من أتى بعدهم كما قال السدي والكلبي : إنهم الذي هاجروا بعد ذلك ، وعن الحسن أيضا : أنّ الذين جاؤوا من بعدهم من قصد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة ، وإنما بدؤوا في الدعاء بأنفسهم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ابدأ بنفسك» (٢) وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا : أصحاب موسى ، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم فقالوا : أصحاب عيسى ، وسألت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٢٤٩ ، والنسائي في الطهارة حديث ١٥٠ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣٠٦.

(٢) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٩٩٧ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٥٤٦.

٢٦٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن آخرها أوّلها» (١) أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي : ضغنا وحسدا وحقدا ، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك ، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر (رَبَّنَا) أي : أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم ، وأكدوا إعلاما بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم : (إِنَّكَ رَؤُفٌ) أي : راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير (رَحِيمٌ) مكرم غاية الإكرام لمن أردت ، ولو لم يكن له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة ، أو لا فنكون من أهل الرحمة.

فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة ، والباقون بمدها

ولما ذكر حال المؤمنين اتبعهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي : تعلم علما هو في غاية الجزم كالمشاهدة يا أعلى الخلق ، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف العالي بأداة الانتهاء فقال تعالى : (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) أي : أظهروا غير ما أضمروا وبالغوا في إخفاء عقائدهم ، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه ، قالوا : والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله ، وهو استعارة من الضب في نافقائه وقاصعائه وصور حالهم بقوله تعالى : (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم اليهود من بني قريظة والنضير. والإخوان هم الأخوة ، وهي هنا تحتمل وجوها :

أحدها : الأخوة في الآخرة لأنّ اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وثانيها : الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.

وثالثها : الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لليهود : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي :

من مخرجّ ما من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) أي : منها (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في خذلانكم (أَحَداً) أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم : (أَبَداً) أي : ما دمنا نعيش ، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) أي : من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي : لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم.

ولما كان قولهم هذا كلاما يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكدا مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى : (وَاللهُ) أي : يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلما (يَشْهَدُ إِنَّهُمْ) أي : المنافقين (لَكاذِبُونَ) أي : فيما قالوا ووعدوا ، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة.

ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا) أي : بنو النضير من أي مخرج كان (لا يَخْرُجُونَ) أي : المنافقون (مَعَهُمْ) أي : حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى : (وَلَئِنْ قُوتِلُوا) أي : اليهود من أيّ مقاتل كان ، فكيف بأشجع الخلق وأعلمهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يَنْصُرُونَهُمْ) أي : المنافقون.

ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معا القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم

__________________

(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ٦١.

٢٦٧

فكان ذلك من أعلام النبوة ، وعلم به من كان شاكا فضلا عن الموفقين (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي : المنافقون في وقت من الأوقات (لَيُوَلُّنَ) أي : المنافقون ومن ينصرونه. وحقرهم بقوله تعالى : (الْأَدْبارَ) أي : ولقد قدر وجود نصرهم لولوا الأدبار منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي : يتجدّد لفريقيهم ، ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات. ولم يزل المنافقون واليهود في الذل.

(لَأَنْتُمْ) أيها المؤمنون (أَشَدُّ رَهْبَةً) أي : خوفا (فِي صُدُورِهِمْ) أي : اليهود ومن ينصرهم (مِنَ اللهِ) أي : لتأخير عذابه ، وأصل الرهبة والرهب : الخوف الشديد مع حزن واضطراب ، والمعنى : أنهم يرهبونكم ويخافون منكم أشد الخوف ، وأشد من رهبتهم من الله لما مرّ. (ذلِكَ) أي : الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف لرؤيتهم له ، وعدم خوفهم من الخالق على ما له من العظمة في ذاته ، ولكونه غنيا عنهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ) أي : على ما لهم من القوة (لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يتجدّد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات ، فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أنّ الله تعالى هو الذي ينبغي أن يخشى لا غيره ، بل هم كالأنعام لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات. والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(لا يُقاتِلُونَكُمْ) أي : اليهود والمنافقون (جَمِيعاً) أي : قتالا تقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي : ممتنعة بحفظ الدروب ، وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي : محيط بهم سواء كان بقرية أم بغيرها لشدّة خوفهم ، وقد أخرج هذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كالأسير ، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك فإنه لم يكن عن اجتماع أو يكون هذا خاصا ببني النضير في هذه الكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها وأمال الألف أبو عمرو ، والباقون بضم الجيم والدال (بَأْسُهُمْ) أي : حربهم (بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي : بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضا شديدة. وقيل : بأسهم بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد ، فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ) أي : اليهود

٢٦٨

والمنافقين يا أعلى الخلق ، أو يا أيها الناظر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسر السين ، والباقون بفتحها (جَمِيعاً) لما هم فيه من اجتماع الأشباح (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي : متفرقة أشدّ افتراقا ، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم ، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب.

قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد ، وموجب كل تخاذل ، ومقتض لتجاسر العدو واتفاق القلوب ، والاشتراك في الهمة ، والتساوي في القصد موجب كل ظفر ، وكل سعادة. وقرأ شتى الحسن وحمزة والكسائي بالإمالة محصنة ، وورش بالفتح وبين اللفظين وأبو عمرو بين بين ، والباقون بالفتح ، وهي على وزن فعلى (ذلِكَ) أي : الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يحيل الاجتماع (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ) أي : مع شدتهم (لا يَعْقِلُونَ) فلا دين لهم مثلهم في ترك الإيمان.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي : بزمن قريب ، وهم كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأسا شديدا عندما قصدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أثر غزوة بدر ، فوعظهم وحذرهم بأس الله تعالى فقالوا : لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم أما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فراودوها عن كشف وجهها فأبت ، فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها فلما قامت انكشف سوقها فصاحت ، فغار لها شخص من الصحابة فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها ، فقتلوه فانتقض عهدهم فأنزل الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بساحتهم فأذلهم الله تعالى ، ونزلوا من حصنهم على حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كانوا حلفاء ابن أبي ، ولم يغن عنهم شيئا غير أنه سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم ، فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء. (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي : عقوبته في الدنيا من القتل وغيره (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم في الآخرة.

مثلهم أيضا في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي : البعيد من كل خير لبعده من الله تعالى المحترق بعذابه ، والشيطان هنا مثل المنافقين (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ) وهو هنا مثل اليهود (اكْفُرْ) أي : بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباعه الشهوات القائم مقام الأمر

(فَلَمَّا كَفَرَ) أي : أوجد الإنسان الكفر على أيّ وجه. ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه. (قالَ) أي : الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) أي : ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلا ظنا منه أنّ هذه البراءة تنفعه شيئا مما استوجبه المأمور بقبوله لآمره ، وذلك مثل ضربه الله تعالى للمنافقين واليهود في انخذالهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف ولم يقل وكمثل الشيطان لأنّ حذف العطف كثير. كقولك : أنت عاقل ، أنت كريم ، أنت عالم ، وقوله (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) كالبيان لقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ الإنسان الذي قال له الشيطان راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها ، فزين له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفا من أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها ، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان ، فوعده إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه» (١) وروى عطاء

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٣٧.

٢٦٩

وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : كان راهب يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين ، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين ، فقال : ألا أجد فيكم من يكفيني برصيصا فقال له : الأبيض وهو صاحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهو الذي تصدى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءه في صورة جبريل عليه‌السلام ليوسوس إليه على وجه الوحي ، فدفعه جبريل عليه‌السلام إلى أقصى أرض الهند ، فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك أمره فانطلق فتزيا بزيّ الرهبان ، وحلق وسط رأسه ، وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه ، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرّة ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة فلما رآه الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم على نفسه حين لم يجبه ، فقال له : إنك حين ناديتني كنت مشتغلا عنك فما حاجتك؟ قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتأدب بأدبك ، وأقتبس من علمك ، ونجتمع على العبادة ، وتدعو لي ، وأدعو لك فقال برصيصا : إني لفي شغل عنك ، فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبا إن استجاب الله لي ، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض ، فأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما ، فلما التفت بعدها رآه قائما يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض ، قال له : ما حاجتك؟ قال : حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولا يتعبد فلا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة ، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما رأيت ، وكان بلغنا عنك أنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد ، وكره مفارقته للذي رآه من شدة اجتهاده فلما ودعه الأبيض قال له : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه ، يشفي الله تعالى بها المريض ، ويعافي بها المبتلى والمجنون ، قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة لأن في نفسي شغلا ، وإني أخاف إن علم به الناس يشغلوني عن عبادة ربي عزوجل ، فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال : والله قد أهلكت الرجل. فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فجننه ، ثم جاءه في صورة رجل مطبب ، فقال لأهله : إن بصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا : نعم ، فقال : إني لا أقوى على جنيته ، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه. انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب ، فانطلقوا به إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان ، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل ، وكان لها ثلاثة إخوة ، وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل قصد لها وخنقها ، ثم جاء إليهم في صورة رجل مطبب فقال أفأعالجها؟ قالوا : نعم ، قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده ، إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتردونها صحيحة ، قالوا : ومن هو؟ قال : برصيصا ، قالوا : كيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك ، قال : ابنوا صومعة إلى جنب صومعته ، ولتكن لزيق صومعته حتى يشرف عليها فإن قبلها وإلا فتضعونها في صومعتها ، ثم قولوا له : هي أمانة عندك فاحتسب أمانتك. فانطلقوا إليه فسألوه ذلك

٢٧٠

فأبى ، فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض ، ووضعوا الجارية في صومعتها ، وقالوا : يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين الجارية ، وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ، ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا ، فجاء الشيطان وقال : ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك ، ويتم لك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب ، فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها ولم أقو عليه ، فدخل فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل ، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته ؛ إذ جاء إخوتها يتعهدون أختهم ، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها ، فلما لم يجدوها قالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال : ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا ، فقال الأخ : هذا حلم وهو من عمل الشيطان ، برصيصا خير من ذلك فتابع عليه ثلاث ليال ، فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك ، فقال الأوسط له ما قال الأكبر ولم يخبر به أحدا ، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك ، فقال الأصغر لأخويه : والله لقد رأيت كذا وكذا ، فقال الأوسط : أنا والله رأيت مثله ، وقال الأكبر : أنا والله رأيت مثله. فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له : ما فعلت بأختنا؟ فقال : أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني ، فقالوا : والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا ، فجاءهم الشيطان ، وقال : ويحكم إنها مدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فذهبوا إليه ومعهم غلمانهم ومواليهم بالفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا ، وأنزلوه منها وكتفوه ثم أتوا به إلى الملك فأقرّ على نفسه ، وذلك أنّ الشيطان أتاه فقال : تقتلها ، ثم تكابر فيجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة ، فلما صلب أتاه الأبيض فقال : يا برصيصا تعرفني ، قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك أما اتقيت الله تعالى في الأمانة خنت أهلها ، وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل ، أما استحيت فلم يزل يعيره ، ثم قال : ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وأشباهك من الناس ، فإن مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظائرك ، قال : فكيف أصنع؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه ، فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك ، قال : وما هي؟ قال : تسجد لي ، قال : أفعل فسجد له فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك».

(إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، والباقون بسكونها (رَبَّ الْعالَمِينَ) أي : الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا ، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيأ إلا بإذنه.

(فَكانَ) أي : فتسبب عن قوله ذلك أنه كان (عاقِبَتَهُما) أي : الغار والمغرور (أَنَّهُما فِي النَّارِ) حال كونهما (خالِدَيْنِ فِيها) لأنهما ظلما ظلما لا فلاح معه (وَذلِكَ) أي : العذاب الأكبر

٢٧١

(جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي : كل من وضع العبادة في غير موضعها ، أو هم الكافرون لقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : ضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير ، والمنافقين من أهل المدينة فدس المنافقون إليهم ، وقالوا : لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم إليه ، ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم فأجابوهم ، وإن أخرجوكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فناصبوهم الحرب فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله ، فكان عاقبة الفريقين في النار.

قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : وكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان ، وطمع أهل الفسوق في الأحبار ، ورموهم بالبهتان حتى كان أمر جريج الراهب ، فلما برأه الله تعالى مما رموه به انبسطت بعده الرهبان ، وظهروا للناس وكانت قصة جريج ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج ، وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها ، فأتت أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج ، فقال رب أمي وصلاتي وأقبل على صلاته فانصرفت ، فلما كان من الغد أتته ، فقال مثل مقالته الأولى فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته ، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم ، قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت ، فلما ولدت قالت : هو من جريج فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم؟ فقالوا : زنيت بهذه البغي فحلمت منك ، فقال : أين الصبيّ فجاؤوا به ، فقال : دعوه حتى أصلي فلما انصرف من صلاته أتى الصبيّ وطعن في بطنه ، وقال : يا غلام من أبوك ، فقال : فلان الراعي ، قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به ، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. والثالث : كلم أمه وهي ترضعه في قصة مشهورة» (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان باللسان (اتَّقُوا اللهَ) أي : اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، واحذروا عقوبته بسبب التقصير فيما حدّه لكم من أمر أو نهي (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي : في يوم القيامة لأنّ هذه الدنيا كلها كيوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون ، والموت والآخرة لا بدّ من كل منهما ، وكل ما لا بدّ منه فهو في غاية القرب ، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.

وقيل : ذكر الغد تنبيها على أنّ الساعة قريبة كقول القائل : وإنّ غدا لناظره قريب. وقال الحسن وقتادة : قرب الساعة حتى جعلها كغد ، لأنّ كل آت قريب ، والموت لا محالة آت. ومعنى (ما قَدَّمَتْ) أي : من خير أو شر ، ونكر النفس لاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة ، كأنه قال : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، ونكر الغد لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال : الغد لا تعرف كميته لعظمته. وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : الجامع لجميع صفات الكمال تأكيد.

وقيل : كرّر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى أداء الفرائض لاقترانه بالعمل ، والثانية ترك

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٥٠.

٢٧٢

المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد ، قال معناه الزمخشري (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا (خَبِيرٌ) أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة (بِما تَعْمَلُونَ) فلا تعملون عملا إلا كان بمرأى من ومسمع فاسحيوا منه.

(وَلا تَكُونُوا) أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذين آمنوا (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي : أعرضوا عن أوامر ونواهي الملك الأعظم ، وتركوهها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ما له من صفات الجلال والإكرام (فَأَنْساهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أن أنساهم بما له من الإحاطة بالظواهر والبواطن (أَنْفُسَهُمْ) أي : فلم يقدموا لها ما ينفعها ، وإن قدموا شيئا كان مشوبا بالمفسدات من الرياء والعجب فكانوا ممن قال فيه تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) [الغاشية ، الآيتان : ٢ ـ ٣] الآية لأنهم لم يدعوا بابا من أبواب الفسق ، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله ، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه (أُولئِكَ) أي : البعداء من كل خير (هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : العريقون في المروق من دائرة الدين.

(لا يَسْتَوِي) أي : بوجه من الوجوه (أَصْحابُ النَّارِ) أي : التي هي محل الشقاء الأعظم (وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي : التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة ، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي : الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب ، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما.

(لَوْ أَنْزَلْنا) أي : بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال (هذَا الْقُرْآنَ) أي : الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم (عَلى جَبَلٍ) أي جبل كان ، أو جبل فيه تمييز كالإنسان (لَرَأَيْتَهُ) يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية (خاشِعاً) أي : متذللا باكيا (مُتَصَدِّعاً) أي : متشققا غاية التشقق (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : من الخوف العظيم ممن له الكمال كله ، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) أي : التي لا يضاهيها شيء (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيؤمنون.

والمعنى : أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده ، وتصدع لوعيده ، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده ، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم ، ونظيره (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] وقيل الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال.

وقيل : إنه خطاب للأمة ، والمعنى : لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى ، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتا فهو يقوم بحقه إن أطاع ، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.

ولما وصف تعالى القرآن بالعظم ، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى ، فقال عز من قائل : (هُوَ) أي : الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه ، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائما أزلا وأبدا فهو حاضر في كل ضمير

٢٧٣

غائب بعظمته عن كل حس ، فلذلك تصدّع الجبل من خشيته. ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفا بنا وتنزلا لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله تعالى : (اللهُ) أي : المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلّا له (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإنه لا مجانس له ، ولا يليق ولا يصح ولا يتصوّر أن يكافئه ، أو يدانيه شيء والإله أول اسم لله تعالى فلذلك لا يكون أحد مسلما إلا بتوحيده ، فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة (عالِمُ الْغَيْبِ) أي : الذي غاب عن جميع خلقه (وَالشَّهادَةِ) أي : الذي وجد فكان يحسه ويطلع عليه بعض خلقه. وقال ابن عباس : معناه عالم السرّ والعلانية ، وقيل : ما كان وما يكون. وقال سهل : عالم بالآخرة والدنيا ، وقيل : استوى في علمه السرّ والعلانية والموجود والمعدوم. وقوله تعالى : (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) معناه ذو الرحمة ، ورحمة الله تعالى إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه. وقيل : إنّ رحمن أشدّ مبالغة من رحيم ، ولهذا قيل : هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأنه تعالى بإحسانه في الدنيا يعم المؤمن والكافر ، وفي الآخرة يختص إنعامه وإحسانه بالمؤمنين.

(هُوَ اللهُ) أي : الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء إلا هو (الَّذِي لا إِلهَ) أي : لا معبود بحق (إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي : فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء ، لأنه مهما أراد كان فهو متصرّف بالأمر والنهي في جميع خلقه ، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته (الْقُدُّوسُ) أي : البليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس ، أو يتصوّره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج إليه ضمير.

ونظيره : السبوح وفي تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح (السَّلامُ) أي : الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق ، فهو بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في وصف كونه سليما من النقائص ، أو في إعطائه السلامة (الْمُؤْمِنُ) قال ابن عباس : هو الذي أمن الناس من ظلمه ، وأمن من آمن به عذابه. وقيل : هو المصدّق لرسله بإظهار المعجزات لهم ، والمصدّق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب. وقال مجاهد : المؤمن الذي وحد نفسه لقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] قال ابن عباس : إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار ، وأوّل من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم : أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن ، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين (الْمُهَيْمِنُ) قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء ، وقيل : هو القائم على خلقه بقدرته ، وقيل : هو الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء (الْعَزِيزُ) أي : الذي لا يوجد له نظير ، وقيل : هو الغالب القاهر (الْجَبَّارُ) الذي جبر خلقه على ما أراده ، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه ، والجبار في صفة الله صفة مدح ، وفي صفة الناس صفة ذم وكذا قوله تعالى : (الْمُتَكَبِّرُ) أي : الذي تكبر على كل ما يوجب حاجة أو نقصا ، وهو في حقه تعالى صفة مدح لأنه له جميع صفات العلوّ والعظمة ، وفي صفة الناس صفة ذم لأنّ المتكبر هو الذي يظهر من نفسه التكبر ، وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علوّ بل له الحقارة والذلة ، فإذا أظهر الكبر كان كذابا في فعله (سُبْحانَ اللهِ) أي : تنزه الملك الأعلى الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزها لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص تعالى : (عَمَّا

٢٧٤

يُشْرِكُونَ) أي : من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرها مما في الأرض ، أو في السماء من صغير وكبير وجليل وحقير.

(هُوَ) أي : الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأنّ وجوده من ذاته ، ولا شيء غيره إلا وهو ممكن. ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء أخبر عنه بأشهر الأشياء الذي لم يقع فيه شركة بوجه. فقال تعالى : (اللهُ) أي : الذي ليس له سميّ فلا كفء له فهو المعبود بالحق فلا شريك له بوجه (الْخالِقُ) أي : المقدر للأشياء على مقتضى حكمته (الْبارِئُ) أي : المخترع المنشئ للأشياء من العدم إلى الوجود بريأ من التفاوت وقوله تعالى : (الْمُصَوِّرُ) أي : الذي يخلق صور الأشياء على ما يريد بكسر الواو ورفع الراء إما صفة ، وإمّا خبر واحترزت بهذا الضبط عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن فإنهما قرآ بفتح الواو ونصب الراء ، وهي قراءة شاذة وإنما تعرّضت لها لأبين وجهها ، وهو أن تخرّج هذه القراءة على أن يكون المصور منصوبا بالبارئ ، والمصوّر هو الإنسان إمّا آدم وإما هو وبنوه وعلى هذه القراءة يحرم الوقف على المصوّر بل يجب الوصل ليظهر النصب في الراء ، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز (اللهُ) أي : خاصة (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التسعة والتسعون الوارد فيها الحديث ، وقد ذكرتها في سورة الإسراء. والحسنى تأنيث الأحسن (يُسَبِّحُ) أي : يكرّر التنزيه الأعظم عن كل شيء من شوائب النقص على سبيل التجدّد والاستمرار (اللهُ) أي : على وجه التخصيص (ما فِي السَّماواتِ) أي السموات وما فيها (وَالْأَرْضِ) وما فيها (وَهُوَ) أي : والحال أنه وحده (الْعَزِيزُ) أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء (الْحَكِيمُ) أي : الجامع الكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم. وعن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قاله حين يمسي كان كذلك» (١). أخرجه الترمذي ، وقال : حسن غريب. وعن أبي هريرة أنه قال : «سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اسم الله الأعظم فقال : عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها فأعدت عليه فأعاد علي» (٢) وقال جابر بن زيد : إنّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قرأ سورة الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٩٢٢.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ٤٩.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٠٩.

٢٧٥

سورة الممتحنة

مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ) الذي من تولاه أغناه عمن سواه (الرَّحْمنِ) الذي شمل برحمة البيان من حاطه بالعقل ورعاه (الرَّحِيمِ) الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه ونزل في حاطب بن أبي بلتعة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) أي : وأنتم تدّعون موالاتي (وَعَدُوَّكُمْ) أي : العريق في عدواتكم ما دمتم على مخالفته في الدين (أَوْلِياءَ) وذلك ما روي «أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها : سارة أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح ، فقال لها : أمسلمة جئت ، قالت : لا ، قال : أفمهاجرة جئت ، قالت : لا ، قال : فما جاء بك ، قالت : كنتم الأهل والموالي والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي تعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأين أنت عن شباب أهل مكة ـ وكانت مغنية نائحة ـ قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطلب على إعطائها ، فكسوها وحملوها وزوّدوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا ، واستحملها كتابا لأهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، وقد توجه إليكم بجيش كالليل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله تعالى بكم ، وأنجز له موعده فيكم فالله وليه وناصره فخرجت سارّة ، ونزل جبريل عليه‌السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا ، وعمارا ، وعمر ، وطلحة ، والزبير ، والمقداد ، وأبا مرثد ، وكانوا فرسانا ، وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها. فادركوها فجحدت وحلفت ما معها كتاب ففتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع ، فقال عليّ : والله ما كذبنا ، ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلّ سيفه ، وقال : أخرجي الكتاب ، وإلا والله لأجردنك ولأضربنّ عنقك ، فلما رأت الجدّ أخرجته من عقاص شعرها فخلوا

٢٧٦

سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة : هي أحدهم فاستحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاطبا ، وقال له : هل تعرف هذا الكتاب ، قال : نعم ، قال : فما حملك عليه ، فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكني كنت أمرأ ملصقا في قريش ، وروي عزيزا فيهم أي : غريبا ولم أكن من أنفسها ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه ، وإنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدّقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ففاضت عينا عمر» (٢) ، وقال : الله ورسوله أعلم. وإضافة العدوّ إلى الله تعالى تغليظا في خروجهم ، وهذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار ، وتقدّم نظيره في قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) [آل عمران : ٢٨] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] روي أنّ حاطبا لما سمع (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان.

ثم إنه تعالى استأنف بيان هذا الاتخاذ بقوله تعالى مشيرا إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله تعالى : (تُلْقُونَ) أي : جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو (إِلَيْهِمْ) على بعدهم منكم حسا ، ومعنى (بِالْمَوَدَّةِ) أي : بسببها قال القرطبي : تلقون إليهم بالمودّة ، يعني : بالظاهر لأنّ قلب حاطب كان سليما بدليل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمّا صاحبكم فقد صدق» (٣) هذا نص في إسلامه وسلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. وقرأ حمزة بضم الهاء ، والباقون بكسرها. وقوله تعالى : (وَقَدْ كَفَرُوا) أي : غطوا جميع ما لكم من الأدلة (بِما) أي : بسبب ما (جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي : الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتا منه فيه أوجه :

أحدها : الاستئناف.

ثانيها : الحال من فاعل تتخذوا.

ثالثها : الحال من فاعل تلقون ، أي : لا تتولوهم ولا توادّوهم ، وهذه حالهم. وقوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ) يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون تفسيرا لكفرهم فلا محل له على هذين ، وأن يكون حالا من فاعل كفروا. وقوله تعالى : (وَإِيَّاكُمْ) عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي : توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار (بِاللهِ) أي : الذي اختص بجميع صفات الكمال (رَبِّكُمْ) أي : المحسن إليكم تعليل ليخرجون ، والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله ، أي : لأجل إيمانكم بالله.

قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي ذلك تغليب المخاطب

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٩٠ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٩٤ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٦٥٠ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣٠٥.

(٢) انظر الحاشية السابقة.

(٣) انظر الحاشية ما قبل السابقة.

٢٧٧

والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) أي : عن أوطانكم ، وقوله تعالى : (جِهاداً فِي سَبِيلِي) أي : بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها (وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي : ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج ، وعمدة للتعليق ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة ، والباقون بالفتح. وقوله تعالى : (تُسِرُّونَ) أي : توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد (إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي : بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل : ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّا وجهرا ، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري (وَأَنَا) أي : والحال أني (أَعْلَمُ) أي : من كل أحد حتى من نفس الفاعل ، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون (بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) قال ابن عباس : بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم ، أي : فأي فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به ، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) أي : يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم (مِنْكُمْ) أي : في وقت من الأوقات (فَقَدْ ضَلَ) أي : عمي ومال وأخطأ (سَواءَ السَّبِيلِ) أي : قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي : هذا كله معاتبة لحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب ، كما قال القائل (١) :

إذا ذهب العتاب فليس ودّ

ويبقى الودّ ما بقي العتاب

وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد ، والباقون بالإدغام.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي : يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي : ولا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ) أي : خاصة ، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم (أَيْدِيَهُمْ) أي : بالضرب أن استطاعوا (وَأَلْسِنَتَهُمْ) أي : بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه (بِالسُّوءِ) أي : بكل ما من شأنه أن يسوء (وَوَدُّوا) أي : تمنوا قبل هذا (لَوْ تَكْفُرُونَ) لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع ، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه ، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه ، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال ، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.

ولما كانت عداوتهم معروفة ، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم ، فقال تعالى مستأنفا إعلاما بأنها خطأ على كل حال : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ) بوجه من الوجوه (أَرْحامُكُمْ) أي : قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم (وَلا أَوْلادُكُمْ) أي : الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم ، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلا ، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : القيام الأعظم (يَفْصِلُ) أي : يوقع الفصل ، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة ، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (عتب) ، وكتاب العين ٢ / ٧٦ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٢٢٧ ، وكتاب الجيم ٢ / ٢٩١ ، وتاج العروس (عتب) ، والعقد الفريد ٢ / ٣١٠ ، ٤ / ٢٣٠.

٢٧٨

الفاء وفتح الصاد مشددة ، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد ، والباقون بضم الياء وسكون الفاء (بَيْنَكُمْ) أي : أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة ، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحدا منكم بشيء من الأشياء ، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذن الله تعالى في إكرامه بذلك (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة التامّة (بِما تَعْمَلُونَ) أي : من كل عمل في كل وقت (بَصِيرٌ) فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))

ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ) أي : وجدت وجودا تامّا ، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ، ولو كانت على أدنى الوجوه (لَكُمْ) أي : أيها المؤمنون (أُسْوَةٌ) أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة ، والباقون بكسرها (حَسَنَةٌ) أي : يرغب فيها (فِي إِبْراهِيمَ) أي : في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي : ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري : وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام ، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة ، وقيل : المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها ، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي : فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه.

قال القرطبي : الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله ، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله ، وقيل : إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره ، وقيل : ليس بشرع لنا مطلقا وهو الأصح عندنا (إِذْ) أي : حين (قالُوا) وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف (لِقَوْمِهِمْ) أي : الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى ، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات ، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات (إِنَّا بُرَآؤُا) أي : متبرؤون تبرئة عظيمة (مِنْكُمْ) وإن كنتم أقرب الناس إلينا ، ولا ناصر لنا منهم غيركم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ) أي : توجدون عبادته في وقت من الأوقات (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الأعظم (كَفَرْنا بِكُمْ) أي : جحدناكم وأنكرنا دينكم (وَبَدا) أي : ظهر ظهورا عظيما (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ) وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر (وَالْبَغْضاءُ) وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم.

ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا : (أَبَداً) أي : على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واوا خالصة ، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا مع المدّ والتوسط والقصر ، ولهما أيضا التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيسا من صلاح الحال ، وقد

٢٧٩

يكون لحظ النفس بينوا غايته بقولهم : (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ) أي : الملك الذي له الكمال كله (وَحْدَهُ) أي : تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دون الله تعالى ، وقوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) فيه أوجه :

أحدها : أنه استثناء متصل من قوله تعالى في إبراهيم ، ولكن لا بدّ من حذف مضاف ليصح الكلام ، تقديره في مقالات إبراهيم : إلا قوله كيت وكيت.

ثانيها : أنه مستثنى من أسوة حسنة ، واقتصر على ذلك الجلال المحلي ، وجاز ذلك لأنّ القول أيضا من جملة الأسوة ، لأنّ الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله فكأنه قيل لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا ، وهو أوضح لأنه غير محوج إلى تقدير مضاف ، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.

ثالثها : قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت ، أي : لم تبق صلة إلا كذا.

رابعها : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم وهذا بناء من قائله على أنّ القول لم يندرج تحت قوله أسوة ، وهو ممنوع. قال القرطبي : معنى قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي : فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفروا للمشركين فإنه كان عن موعدة منه له ، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة التوبة ، وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأنبياء ، لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم استثنى بعض أفعاله ، وهذا إنما جرى لأنه ظنّ أنه أسلم فلما بان أنه لم يسلم تبرّأ منه ، وعلى هذا فيجوز الاستغفار لمن يظنّ أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظنّ فلم توالونهم. وقوله (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ) أي : من عذاب أو ثواب الملك إلا على المحيط بنعوت الجلال (مِنْ شَيْءٍ) من تمام قوله المستثنى ، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أحواله.

وقوله : (رَبَّنا) أي : أيها المحسن إلينا (عَلَيْكَ) أي : لا على غيرك (تَوَكَّلْنا) أي : فوّضنا أمرنا إليك يجوز أن يكون من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه ، فهو من جملة الأسوة الحسنة ، وفصل بينهما بالاستثناء ويجوز أن يكون منقطعا عما قبله على إضمار قول ، وهو تعليم من الله تعالى لعباده كأنه قال لهم قولوا ربنا عليك توكلنا (وَإِلَيْكَ) أي : وحدك (أَنَبْنا) أي : رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا (وَإِلَيْكَ) أي : وحدك (الْمَصِيرُ) أي : الرجوع في الآخرة.

(رَبَّنا) أي : أيها المربي لنا والمحسن إلينا (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي : بأن تسلطهم علينا فيفتنوننا بعذاب لا نحتمله ، أو فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل : لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك. وقيل : لا تسلط عليهم الرزق دوننا ، فإنّ ذلك فتنة لهم (وَاغْفِرْ لَنا) أي : استر ما وقع منا من الذنوب ، وامح عينه وأثره (رَبَّنا) أي : أيها المحسن إلينا وأكدوا إعلاما بشدّة رغبتهم في حسن الثناء عليه فقالوا : (إِنَّكَ أَنْتَ) أي : وحدك لا غيرك (الْعَزِيزُ) أي : الذي يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء (الْحَكِيمُ) أي : الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها ، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله ما طلب.

٢٨٠